شربل بعيني: قيثارة تعزف في رحاب الله

حيّوا بشربل أبناء غطارفة
أحيوا تراثاً لنا 
فاختال ماضينا
يا شربل الشعر، 
يا أرزاً يعانقنا
نحن نغني لكم أحلى أغانينا
في غربة مرّة 
تبنون رابطة
تزهو بحرف 
وتسمو في أمانينا
ناداكم الحب من عاصي الهوى، فدعوا
من مجدليا الهوى منكم ينادينا
   وتسأل القلوب عن هذا اللحن الذي انساب إليها بعذوبة السحر، فأورقت الأغاني، وانتشت الآمال، وزفت للربيع مواسم الورد، ثم ترقرقت بالجداول الطليقة الثرية، ونسجت من خيوط القمر ثوباً مخمليّ الكلمات لعذارى الفجر وحوريات الوطن.
   تسأل القلوب عن قيثارة سماوية اللحن أبدعت موسيقاها في رحاب الله المطلقة، فإذا هي تتماوج بالشوق وتتلوّن بالحنين. 
   إنها قيثارة شاعر تسافر مع الزمن بأنامل شاعر وإحساس شاعر، وذوبان شاعري رؤيوي روحاني الجمال، ولقاء انعتاق سرمدي روحي في الحب الذي يتحد بالوجدان، ويسمو إلى حد العشق، بل الى صوفية الحب.
   إنها قيثارة شاعر محب هائم، موله بالسحر، متيّم بالصدق والحقيقة، ومولع بمرارة الحزن التي تقطر فرحاً.
   إنها قيثارة شاعر محب.. وكيف يكون الشاعر بدون حب، والحب دينه وديدنه؟ والغزل سلسبيله المترقرق بالعذوبة والعفوية والنقاء؟
   كيف يكون الشاعر بلا هوى؟ وفي أنفاسه عبق الوجد، وفي عينيه زفة عذارى الفجر للشعر، وترتيلة العشاق في صلاة الليل العذري.
   هكذا شربل بعيني الذي زارنا في هذا الكون المتناقض واللامتناهي بعد تفتّحه ونموّه في رحم لبنان الأخضر الزاهي.
   زارنا شربل زيارة شاعر مرهف يتحسّس الطبيعة فتولد منه بعد أن ولد منها، وينتشي من كأس الهوى، فيذكرنا بأخطل الغزل:
خلق الهوى والسحر ليلة مولدي
وسيحملان معي على ألواحي
   إنها أنفاس شاعر طالما تغنّى بالسحر الساحر، والجمال الأبدي:
الشعر منّو شعر من دوني
ولا كان هزّ مشاعر الإنسان
   ويبقى الهوى الذي يتنفسه العاشق وينشق عطره بلهفة الشوق ونشوة الفؤاد:
شو خبّر العصفور هاك السوسنه
عن حبّنا.. عن طيش عهد الولدنه
   وما أروعه عندما يخاطب "نجلا" بشاعرية رقيقة وغنائيّة عذبة:
ياما وياما صرخت يا "نجلا" تعي
نمشور ع درب الليل شي مشوار
وإسقي زهورك من حنايا مدمعي
وعلّق ع صدرك كم نجمه زغار
   آه ما أصفى هذا النفس يا شربل، وما أطهر هذه الكلمات الرشيقة، إنني أكاد أذوب في غزلياتك المنثالة بعفوية ورقة وسلاسة.
   وإذا كان لا بد من الشرط الانقلابي في الحب، لا بد من المغامرة، فحب شاعرنا هكذا أيضاً.. نيران وجنون وخطر:
حبي أنا نيران وجنون وخطر
ومفقود يللي بيسكن بقلبي
   ويبقى التألق الشعري والتعبير الإبداعي الجميل من خلال أسماء لا ندري مدى مساسها بالشاعر، ولكنه دفق من أجلها دفقات شعرية مضمخة بالعطر، مزوزقة بالابداع:
كرمال عينك.. هالورد رح إقطفو
وإشلحو ع درب بيتك يا ندى
وإتركو للريح حتى تصفصفو
متل النجوم الما بيقشعها حدا
   كم هي سماوية هذه الموسيقى! كم هو منسجم لقاء القافية بالإيقاع! كم هي حلوة على الأذن هذه الحروف البسيطة بوقعها وجمالية لفظها وسحر مغزاها: اشلحو، تصفصفو. 
   وللهوى والجمال ثغر يتلظى بحرقة الوله ولوعة القبلات، أتراه ظمأ لا يرتوي أم نيران لا تنطفىء:
شفافك نبع مهما شربت منّو
عم ضلّ حسّ بنار تكويني
   ولكن الحب المنسي على مرافىء النوى وشواطىء الحرمان، لا بدّ أن يترك في النفس المتيقظة آثار الشوق والحنين:
شو بعمل؟ حبّي نسيني
ع شطوط الدني
وعم يكبر فيي حنيني
من سنه لسنه
   وحب الشاعر أسمى وأقدس من أن ينساق وراء ملذة آثمة أو شهوة دنيئة:
لو كان عندي للخطيّه ميْل
كنت سبحت ببحور عينيكي
وكنت وصلت ع شط هاك الليل
مطرح ما فيني إحصل عليكي
   وعن جمال الطبيعة، بدعة الخالق، أعجوبة هذا الكون، يتجلى اندماج الشاعر بالحمى والرؤية مع لبنان من خلال الكرزة والدالية:
معوّد أنا صيّف بأعلى حرود
فيها الكرز محمر
ومنو لحالو بيستوي العنقود
   وتورق شاعريته لوحة زاهية فنية التعبير:
وبالآخره لقيتك
ناي وموسيقى وعطر
وألف قطعة شعر
   لأنها الفرح والسحر والأخلاق العطرة.. لأنها الشعر وهو الشاعر:
ولهالسبب يا نور عينيي
انكان بدك تشفقي عليي
لا تسأليني ليش حبيتك
   وتبرز صوره في الحب والجمال واضحة من خلال الحب العميق للوطن، ولكل ذرة من ذرات ترابه، وفي كل أحواله وتقلباته:
بحبّك بربيعك
بحبّك بخريفك الـ فجّر ينابيعك
بحبّك بشتويتك
بحبّك بصيفيتك
بحبّك من كانون ولغاية كانون 
بحبّك يا حبيبي
لأنك حبيبي
كيف ما كنت تكون
   ولا بد أن نسأل الشاعر عن لبنان الحب والجمال، ليحدّثنا بشاعرية تتعانق فيها الأرض والسماء، وخيمة الناطور، والطيور، والله، والطبيعة، والشعر، والضياء والمطر:
لبنان فيه الطير عم يسكر
ويشرب خمر عرزالنا الأخضر
...
لبنان شهقة أوف من موال
لبنان زورق والبحر آمال
   أليس هو القائل:
أنا شاعر الحب والهوى والجمال
أعيش بالجمال
وأفنى بالجمال
   حقيقة إنه شاعر.. ويكفيه انه شاعر في زمن البعد عن الروح، وتشويه الذوق والجمال، والنفور من الكلمة التي ترتقي إلى كلمة الله، والنغمة التي تفرح قلب الله:
فجّرني حب وإحساس
وترتيله ع شفاف الناس
...
وحمامه تبشّر بالسلم
يا رب القاعد بالبال
   هكذا يكون الايمان بالحب والحب بالايمان. 
  هكذا تعزف القيثارة تراتيل السماء. 
  هكذا يمجّد أرز لبنان.      
  هكذا يدرك المرء يقيناً أن الأبقى مع الدهر وجه الله والشعر.
  وهكذا نعلم أن قيثارة شربل بعيني لا تموت، ولا تتحطّم.. لا تذوي أوتارها ولا تذبل أنغامها. صوتها وعزيفها مطر، قوسها قزح، تصدح بقدسية وإيمان في رحاب الله للفرح الأبدي.
النهار، العدد 732، 19/11/1991
**