هاجس الحب والحرب والوطن عند الشاعر شربل بعيني

 كل من يسافر على أمواج الشاعر المهجري 
الأستاذ شربل بعيني، 
لا بد أن يلمح هذه القضايا 
التي شغلت حيزاً كبيراً في شعره. 
ففي سفينته الشعريّة 
مرساة بانتظار شاطىء الوطن، 
وحمامة بانتظار السلام للوطن، 
ووردة تنتظر لحظة زفافها للحب.
إنه الشعر، لغة اللـه على الأرض. 
إنه الشاعر الذي يقف أمام اللـه وجهاً لوجه،
وينقل إلينا منه الكلمة التي كأنها في البدء، 
وكل شيء به كان، 
وبغيره لـم يكن شيء مما كان، 
فهل سمعته يرتّل صلاته للـه؟.. إنها صلاة حبّه:
بْحِبَّكْ.. مَهْمَا كِتْرُوا ذْنُوبِي
بْحِبَّكْ.. مَهْمَا اللَّيْل يْجِنّْ
بْحِبَّكْ مَاشِي فَوْق دْرُوبِي
بْحِبَّكْ ضِحْكِةْ خَدّ وْسِنّْ
وْإِيدَيْن تْسَتِّرْلِي عْيُوبِي
وِتْآسِينِي لَمَّا بْعِنّْ
يَا أَجْمَلْ سَطْر بْمَكْتُوبِي
يَا أَوّل كِلْمِه بِسْمَعْهَا
وْبَعْدَا بْدِينَيِّي بِتْرِنّْ
   ويكون جمع القلوب بقلب واحد عندما يكون الاتفاق، ونصبح اخوة بالربّ:
خَلِّينَا بْهَـ الدِّنْيِي إِخْوِه
نْعِيش وْنِحْنَا مِتِّفْقِينْ
مْنِ مْحَبِّتْنَا بْتِخْلَقْ قُوِّه
كِلْمَا بْإِيدَكْ بِتْبَارِكْهَا
بْتِتْلاشَى الأَدْيَان بْدِينْ!!
   وينظر الشاعر بعمق إلى المأساة اللبنانية، فيرى بإحساسه المرهف مدى بشاعة الناس الذين أصبح بهم لبنان ملعباً للشياطين:
ما إلنا غيرك.. نجّينا
من مْصايب عم تنزل فينا
من حروب تفرّق وتبعّد
بين الناس الـ باعت دينا
   ثم ينتقل ليرجو من الرب أن يبدد الظلمة، ويشعل شموع النور التي كانت تمجّد أرز لبنان:
يا رب العم بتآخينا
هالعتمات السودا بدّد
عنّا.. عن هالأرض الـ صارت
تتلاعب فيها شياطينا
   ورغم كل الشهوات والمغريات، رغم كل المساوىء التي تشدّه إلى الانزلاق لأسفل الدرك، يبقى معمّداً بالحب:
مهما الغيره تدقّ بْوابي
مش رح إفتحلا يا رب
ومهما الشهوه تغرّ شْبابي
بستبدلها بكلمة حبّ
   ولكن هاجس الغربة يشده للتعلّق بسراب العودة، فقد أصبح رفيق الغربة منذ زمن بعيد:
الشاعر والغربه عَ طول
رفاق من سنين بعيده
من وقت الـ عطيتنا حقول
بلادي، أزهار جديده
   وإذا كانت المدن تبنى بالحجارة، فبيروت التي يحاول الغدر أن ينال منها مبنية بالياقوت:
يا ما بشر صلّوا تا حتّى تموت
هاك المدينه الساحره بيروت
كل المدن بنيانها من حجار
وهيّي الوحيده معمّره بياقوت
   ويطلق السؤال باحثاً عن الحقيقة، فإذا بها تشرق من عالم فيه من ضحّوا بدمائهم من أجل اتفاق ذئاب المكر، التي تبث حقدها وشرورها بين الشعب:
لا تصدّقوا الأخبار.. كلاّ كذب
نحنا الـ دفعنا دمّنا بهالحرب
مات منّا ألوف خلف ألوف
وعَ ضهرنا اصطلحوا دياب الشعب
   وتسمو المحبة عن الغيرة والحسد وشهوات الجسد عندما يحضنها القلب بطهره وعفّته:
محبّتي ما ببيعها بغيره وحسد
ولا بوسّخا بشهوات فجّرها الجسد
ما دام لبس الطهر بدلات الفنا
رح خبّيا بالقلب ع طول الأبد
   ويلتقي الوطن بالحب عندما تتفتح قرنفلات الحب، وتزهر نجومه، وترتوي القلوب الظامئة بماء الوطن:
كل شربة مي من نبع الصفا
بتسوى الدني من شرقها للغرب
جنّة وطنّا صعب حتّى نعرفا
إلا ما نزرع قلبنا بالحب
   ويكبر الشوق في مساحة العاطفة وحدائق المشاعرـ فإذا بلبنان المقدس يشع ببراءة أطفاله:
اشتقت يا لبنان عَ ربوعك
عَ أرضك اللي مقدّسه بدمّات
أطفال.. لولا بتنطفي شموعك
متل النجم بتشع بالعتمات
   ويبقى السؤال المحيّر "ليش؟". هل هو القدر المحتوم؟. أية مشيئة تلك التي تقبل أن ننسلخ عن جذورنا، ونرمى وراء البحار، حيث الغربة والعذاب والقهر:
ليش صرنا بهالدني مسبّه
وتشرشحت بالكون قيمتنا
وليش انسلخنا عن أرض خصبه
وجينا انزرعنا بأرض غربتنا
   والغربة لا تكتب إلا ما تريده، فهي لا تكتب الفقر والعذاب، ولا السهر والشوق والحنين:
لا تقول إنّي كتبت بالغربه
الغربه بتكتب شعر عَ ذوقا
بتمحي بإيدا الكلمة الصعبه
وبتحطّ كلمه هيّنه فوقا
   وبالرغم من الغربة القاهرة، بالرغم من المصاعب، يزرع الشاعر وروده الشعرية التي يفخر من خلالها ببلاده، ويرفع من شأنها:
كرمال عينك بس يا بلادي
زرعت بالغربه شعر وزهور
وضلّيت طول الوقت عم نادي
يدوم عزّك.. والقلب مقهور
   ويبقى هاجس الغربة والضياع في دنيا غريبة الوجه واللسان والفؤاد:
غريب.. وضايع بدنيي غريبه
ملانه همّ
ملامح وجّها الأسمر كئيبه
بلون الدمّ
   وينظر الشاعر إلى بطولات الجنوب اللبناني بقلب يغمره الفرح، فينتشي من انتصاراته، ويطالبه، ويطالب الشرفاء في لبنان، على التكاتف معه، من أجل مصلحة لبنان وسلام لبنان:
من دونك شو نفع الأرض
اللبنانيه.. بطول وعرض
لازم نتكاتف يا جنوب
ونمحي عن وجّك حروب
خلّت طفلك يتشرّد
ويمشي بالعتمات دروب
   إنها ملاحم الغربة والتشرد والمآسي، يكتبها شاعر لبناني مهاجر احترق قلبه من مآسي وطنه، فأصبح يبلل ريشته بجرح غربته، وعذاب روحه، ومرآة نفسه المحطّمة، ليرسم الأفاعي تمتص من أغصان الأرز نسغها، بينما الغربان تكسرها وتنعب عليها أناشيد الجحيم، وترقص على بقاياها رقصة الموت.
   إنها الغربة وأسرارها. إنه السؤال المجهول عن مستقبل مجهول. فماذا يكمن وراء هذه الغربة الطويلة؟:
يا غربة الإيام الطويله
يا غربة الشقا والضنا
قبل ما تحكيلن احكيلي
شو اللي متخبالي أنا؟
   ونصل الى قمة المأساة، فيصرخ الشاعر بوجه الظلم:
وآخرتها شو؟
ساعه بيرضى فلان
وساعات بيهاجم
وعم يحترق لبنان
وتتطاير جماجم
   هكذا نجد شحوب في النفس، وسواد قاتم في العاطفة، ورؤية غائمة في العيون:
وآخرتها شو؟
قرفنا الحكي يا ناس
قرفنا الشرب والكاس
قرفنا المحبّه والزهر
قرفنا نأدّن بالفجر
أو نحضر القدّاس
قرفنا نكمّل هالعمر
الخالي من الإحساس
   إنها السوداوية المغرقة بالتشاؤم. إنه القرف من الجمال، الحب، الحياة.
   وإذا كان لنا من قول: لِمَ كل هذا التشاؤم؟ أنظر إلى وراء النجوم ستجد نوراً مفعماً بالأمل.. إلى عيون الغيوم ستجد مطراً له رائحة الحياة، فما عليك إلا أن تتفاءل، وبدلاً من أن تقرف من الحكي، يجب أن تقول: لا مجال الآن للصمت، وبدلاً من القرف من الكأس، يجب أن تقول: هيّا لنفرح في عمق المأساة، فما عرف لبنان إلا الفرح. وبدلاً من القرف من المحبّة والجمال، يجب أن تقول: ذرة محبة وجمال تشرق وتورق لهي أفضل من آلاف الأشجار والجبال المكللة بالحقد والقبح والضغينة، وأسمى من الظلمة إذا لم تحبل بالنور.
   لا.. ما كنا نريد منك أن تقرف من العمر، بل أن تكمل المشوار، وتزرع بذور الخير والسلام في بلد الخير والسلام. لأن كلمة الحب أقوى من كل ما في الحياة من قوى. إنها مندمجة بالخالق. فلنحب في زمن تتكالب عليه قوى الشرّ، ومن ثغر ضوئي بسيط ننشر النور الذي كان وما زال وسيبقى.
   أجل، هكذا وصلت الذروة الشعرية عند الشاعر المحب، المتشوّق، العاشق. لقد سئم من كل شيء عندما شاهد الشياطين يعيثون فساداً، ويغتالون لبنان باسم الدين:
وبعدو بإسم الدين 
عم يخلق سلاطين
شكلا شكل إنسان
وفعلا.. فعل شيطان
ولهالسبب لبنان
عم تحصدوا النيران
وتستملكو شياطين
   ومن عمق الحب يصبح قلب الشاعر وطناً، والوطن قلب الشاعر:
ليش دخلك ليش يا ربي
تركت قلبي يولع ويسودّ
وغيرك يا ربي ما سكن قلبي
ولا يوم جرّحتو بشوك البغض
ولا زرعت بحواضو زهور الحقد
قلبي وطن مزروع بمحبّه
حْرام يا ربي الوطن ينهدّ
   وأخيراً يتوصّل الشاعر إلى الجواب الشافي عن أسئلته المحيّرة: ما هو سبب الحرب؟ ما هو سبب غربتنا؟ ما هو سبب الكراهية والبغض؟ إنه الجواب الأخير الذي فيه الحل والخلاص:
هات إيدك هات يا خيّي
بإيدك وإيدي السحر متخبّى
تنياتنا بقوّه إلهيه
منقضي عَ زمره مضيّعا ربّا
سمومها نعرات دينيّه
وزهور سودا مزيّنه دربا
لازم نحارب هالزعامه كتير
ونشك سيف حقوقنا بقلبا
   وبهذا يكون الخلاص والفرح، فيعود المهاجر إلى وطنه المعلق بخيوط النور، والمتوّج بالنجوم، الشامخ للأعالي، المكحل عيونه بلون الشفق، والنائم بحضن الفجر:
إنت وأنا الـ منخلّص الأجيال
من ظلم شتتنا بهالغربه
والهم فوق صدورنا أحمال
والنار تاكل قلبك وقلبي
يللا سوا تا نحقّق الآمال
ونمسح غشاوة حقدُن الملعون
ونفلح ونزرع أرضنا محبّه
   ومن يفلح ويزرع أرضه محبّة، لا بد أن تثمر ثمارها محبّة.
   إنه هاجس الحرب والوطن عند الشاعر المهجري الاستاذ شربل بعيني. هاجس العودة إلى الوطن بعد تطهيره من الفساد، وإعادته أرزاً شامخاً، وقمراً مشرقاً، وأغنية أبدية. إعادته الى الله بعد إعادة الله إليه.
صدى لبنان، العدد 616، 4/10/1988
**