شربل بعيني ملاّح في جزيرة الله

   من على الشاطىء تنذر صفّارة الرحيل، 
فيقف الشاعر يصغي لنبضات قلب 
يطفق بشتى الانفعالات وألوان المشاعر، 
بينما بصره يجول في مساحات شاسعة 
من العالم اللامتناهي، 
وبعدئذ يقترب رويداً رويداً بتأمل عميق 
الى القارب الخشبي، 
والمجذافين المرهقين، 
والقلم في رأس الشراع منارة 
تعلن عن رحلة الشعر 
في بحار المجهول 
لعله ينهي مشقة البحث بدون جدوى، 
لعله يلتقي بالحقيقة الأزلية والأبدية.
   تحرّك القارب على أمواج هادئة في غروب هادىء، أيقظ شفق المساء وسافر الى شروق جديد، وبعد أن تحرك القارب كانت الرحلة وكان البحث العشوائي عن الله، ورغم كل ما ينجم عن البحر ويلفظه البحر من مخاطر، ورغم كل ما تحتويه السماء من مصاعب وحواجز تابع الملاح، وتابع بإصرار لا يحده حد، وعزيمة وإرادة لا تعرفان للاحباط واليأس سبيلاً.
   وتعرّض الملاح الشاعر للعواصف الهوجاء، والفيضان الحسّي، والزلازل العصيبة، والبراكين الانفعالية، ومع هذا تابع رحلته وأبى الا ان يكون نوح الشعر وأيوب الكلمة، وفي سبيل الأهداف يحلو المر وتُعشق الأهوال.. وها هو الشاعر الملاّح يعبر من أزماته ومآزقه وآلامه الى سراديب النور، ومن هناك ينثر حبّات قلبه:
لا تسلني يا حبيبي
كيف أينعت السنابل؟
رغم رحيل الشمس عن أرضي
وأنات البلابل..
   رحلت الشمس عن لبنان، ومع الشمس رحل الشاعر وفي حقيبته رؤاه الحزينة وأغانيه الموجعة. رحل من الموت الى الحياة، ومن الجحيم الى النعيم، وفي رحلته لا بد أن يمر في مراحل وبتجارب عديدة:
قررت أن أحارب القبور والأكفان
وأطعن الموت الذي يجترّنا 
في رحلة الأزمان
   ويمر الزمن والقارب يمخر عباب المجهول، والشاعر الملاّح ينثر رذاذ حروفه على صفحات الغربة، ولكن الحيرة ما تزال والشوق ما يزال، الحب ما يزال والكره ما يزال، البركة ما تزال واللعنة ما تزال، الظلمة ما تزال فأين النور؟ إذا كان النور ظلمة فالظلمة كيف تكون؟
  وتستمر رحلة البحث عن نور يختصر كل ما في الكون، وعن جزء دنيوي يسأل ويلح في البحث عن مطلق الرحمة وقاهر الألم والموت:
يا ضمير الرأفة المطعون بالخنجر
في ليلة حب وهوى
أذكر يوم جئتك منحنياً،
كاللعنة أدبدب،
وقلت لك:
أريد منك رحمةً..
   وتتشابك الهواجس ويوهن النظر، والملاح ينزف على الدفاتر، ويرسل ما يراه في نفسه:
إنّي وجدت مذ خلقت
كي أكون النور
في عرس الدفاتر
   وعند المساء يضع الملاح الشاعر صوت فيروز الملائكي في رحلته، وعندما تؤثر به وترفد روحه بالعبق الروحي، وتحرض مشاعره، وتضفي عليها نبلاً جديداً، ووحياً جديداً من فوق الأمواج المترجرجة المتعانقة بفرح طفولي مع قارب يتهادى ويتراقص على لحن الرجاء وعزيف اللقاء، فيقول:
عاشت الأسماء، يا فيروز،
يا لؤلؤة البحور
من غيرك يزرعنا أزهار حب ووفاء
في مروج الخلد..
في أزقّة السماء؟
   وبعد تعب طويل وسفر طويل يضني ويؤرق لا بد أن ينشد موال الغربة الجريح:
أين يسوعي الصغير
فإنني قد ذقت صلبَه؟
أين الرسول محمد؟
أين الحسين والحسن؟
أين الصحابه؟
قد هجرت الدار مثلك يا رسولي
ولم أجد تلك المدينه..
كل المدائن في بلادي
توحّدت بحروف غربه..
   ويبقى القارب جاداً في البحث والتفتيش عن المحبّة والعدالة والجمال والعقل والارادة والضمير، وعن المعرفة والحقيقة المطلقة، عن الرجاء المطلق والمرفأ الأخير:
ليست الأحلام ما أبغي
أنا التوّاق دوماً للحقيقه..
   ويخطر في الذهن سؤال يراود البال: لمَ اختار هذا الشاعر البحر في رحلته المبهمة؟ ألأن البرّ أمسى جحيماً حارقاً، وأطفال البراءة براعم المستقبل بحاجة الى عطف وحنان كي يترعروا وينضجوا في ظله:
البحر يندهني فهل من مانعٍ
أن يرتمي الأطفال في الأحضانِ
قد حوّلوا الدنيا جحيماً حارقاً
والطفل لا ينمو بغير حنانِ
   وهكذا تستمر الرحلة شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى خيوط الليل، وتتمخض عنها أحلام فجر جديد في انسلال سحري وفرح إلهي وخلاص أبدي من عذاب المتاهات والآمال التي تثمر عن وهم وسراب:
أغمضت عينيّ 
وطرت في فضاء أزرق الحلم جميل
فتراءت قمم عالية
تحسبها الجفن الكحيل
لعيون زيّن الله بها وجه أميره
لم تلدها امرأة
ولم تدس أرض عشيره
وليس من صنو لها أو من بديل..
   وتتراءى مظاهر الطبيعة المقدسة والمعابد المقدسة:
ثم بانت تحتها أودية الطهر العميقه
عمق الصلاة والقداسة
في معابدنا العتيقه
   فيكبر قلب الشاعر وينتعش، وتتراقص ألوان الضياء في مقلتيه، ثم يشعر بالصفاء الروحي والنقاء الفكري والطهر الجسدي، وتؤوب الى راحتيه حمائم السلام، ثم يتّحد بصوفية اللحظة السامية، ومن ثم بسر الخلود ولغز الوجود، وينعتق من كل ربقة في الكون العجيب الذي أصبحت نهايته على مدى أميال قليلة منه، وتلوح من خلف الأفق جزيرة مضيئة خضراء، وصغيرة جداً جداً، في منتصفها على كتف السماء ضوء بسيط بسيط جداً على شكل قوس قزح، فينتشي الملاح بالظرف المنشود، ويولد من جديد بعمق جديد ورؤى جديدة، وقبل أن يربط أربطة القارب على شاطىء الجزيرة المتلألىء بحروف الحياة، يسمع صوتاً مشين البحة، ممتعاً في الأذن، لذيذ السماع: قف، أيها الغبي، من أنت؟
   فيرد الملاح الشاعر.. إسمع:
من حزني الطويل يا حبيبتي
ومن نمو الذكريات العالقه بالبال
تفتّقت آمال..  
كبرعم الأشجار..
كالنبع الذي يكوّن الشلال..
الحزن مشّاني خطى تقود للكمال
   فيختفي ذلك الصوت المحمل بالاختناق، والمعبّأ بالظلمة التي تستلّ اليقظة، وينفث سموم الغدر، وينزل الملاّح وصوته يردد بعفوية اللقاء وترنيمة الايمان:
هزّني شوق الرجوع إليكِ
يا أرضي الرحيمه
...
أنا الذي قوّضت بالشعر 
رموز الحقد والضغينه
   ويستيقظ الشاعر يقظته الخالدة من إغفاءة الحلم المقدّس، وتتفتق عيناه على ثمار الحقيقة في فردوس ساحر، وينهل بعذوبة بعد ظمأ الموت من ينبوع المسرة الحقيقية وشلال الحياة الخالد:
أنا من عاش مصلوباً
على خشبات إحساسه
وجرحه نازف أبداً
ولا جرح بمقياسه
أنا من عضّه الشوق
ولحمه بين أضراسه
   وهكذا يرسو القارب بعد ذوبان روحي والتحام مع الوعي السماوي، وبعد أن عبرت الرحلة جحيماً من نار ومطهراً من الشرور والآثام، لتشرق الشمس وتنضج السنابل"1"، 
وتدب روح العبقرية والابداع في المجانين"2"،
 ويتعانق الأحباب"3"، 
والصدى يتردد في وديان الطهر: إلهي جديد عليكم"4"، 
تشعل شموع جديدة"5" بلهب جديد، 
وتؤرق المراهقة"6" بشباب متجدد مدرك، 
وتكف الغربة الطويلة"7" عن البحث اللامجدي، وعند أول وعاء مغمور بالحق، 
مفعم بالجمال، 
تحت أرزة تنبض بعروقها المحبة، 
وترفرف على أغصانها المعرفة، 
يصلي الشاعر صلاته لراحة النفس البشرية واستمرار الحياة، 
فيقطر زيت من زيت الحياة، يوقن بعدها الملاح الشاعر"8"،
انها الراحة المنشودة، 
واللقاء الأخير،
والخلاص الأبدي، 
الذي يكون به: ألله ونقطة زيت"9".
ملاحظات:
1ـ2ـ3ـ4ـ6ـ7-9 مجموعات شعرية للشاعر
5ـ عنوان قصيدة للشاعر
8ـ الشاعر شربل بعيني من مواليد 1951 لبنان، مجدليا. هاجر الى أستراليا في 21 كانون الأول 1971 وهو أول من بذر حروف الشعر العربي هناك.
الثقافة السورية، 16/5/1992
**